يتميز التعليم حول العالم بوجود عدة مناهج دراسية تتنافس وفقاً لثقافات مختلفة. إنه مجال شديد التنوع وتطوره يتأثر إلى حد كبير بديومغرافيا الدول وحاجاتها. التعليم عمل جدي، ومع ذلك، هناك اتجاه متنامي تظهره الأبحاث التي تؤكد على ضرورة التعامل مع عنصر اللعب في التعليم بجدية، وذلك لتفادي تفويت الجانب التجريبي الذي يعتبره الكثيرون مصدراً لتشتيت الانتباه، فيما أنه في الواقع يثري تجربة التعليم ويكمّلها. إنه من الضروري تجريب وترسيخ هذا التوجه الجديد ضمن الممارسات التقليدية المستخدمة منذ مراحل التعليم المبكرة.
لنوضح بعض المفاهيم الخاطئة بخصوص تنمية الطفولة المبكرة
هناك حقيقة يجب على كل أولياء الأمور الجدد معرفتها، الا وهي أن السنوات الأولى من حياة الطفل تشكل الركيزة الأساسية لنموه بالكامل في المستقبل.
أولاً، التعليم المبكر غير فعّال. رغم أن قدرات الأطفال التي يمكن ملاحظتها محدودة جداً، فإن تطور الدماغ يكون في أسرع حالاته أثناء السنوات الأولى ويتصل بشكل مباشر بتطور الطفل البدني. يكوّن دماغ الطفل أكثر من مليون اتصالاً عصبياً جديداً كل ثانية، وهي سرعة لا يمكن تكرارها أثناء حياته، فيما يتشكل أكثر من %80 من الدماغ عند الوصول إلى عمر 3 سنوات. وكلما حفزنا الأطفال أكثر، كلما زادت سرعة اكتشافهم، وتفاعلهم، ومعرفتهم لأجسادهم أثناء تطوير حواسهم.
كما يوجد مفهوم خاطئ آخر يتعلق باللغة، إذ أن اللغة هي أحد أهم النعم التي نعطيها لأطفالنا. إنها جزء هام من تطور أي طفل، إذ تدعم قدرتهم على التواصل والتعبير عن المشاعر وفهمها. لهذا يجب على الأهل التحدث مع أطفالهم وتشجيعهم على التواصل المتبادل حتى في سنينهم المبكرة. يجب أن يتفادى الأهل تبسيط محادثاتهم مع أطفالهم، وبدلاً من ذلك التحدث معهم باستخدام جمل كاملة وغنية بالمفردات. الأطفال ينصتون حتى قبل ولادتهم؛ حيث يبدؤون بسماع الأصوات عند الأسبوع 18 من الحمل، ويبدؤون بالاستجابة للضجيج أو الأصوات عند الأسبوع 25 أو 26 من الحمل، وحتى يمكنهم التعرف على صوت أمهاتهم في الربع الأخير من الحمل. ويحتاج الأطفال عاماً على الأقل قبل أن يستطيعوا التكلم، ولكن سماع صوت أمهاتهم والبيئة المحيطة بهم يجعلهم يفهمون بنية اللغة في وقت أبكر بكثير من ذلك. لهذا يجب على الآباء والأمهات التكلم مع أطفالهم الصغار بطريقة بسيطة، ولكن واضحة ومنظمة.
أما ثالث مفهوم خاطئ فهو الجانب المالي. تبدو تكاليف رعاية الطفولة المبكرة عالية، ولكن علينا أن ندرك كمية الخدمات، والمرافق، والأعمال اللازمة بشكل دائم لضمان رعاية الأطفال الصغار بشكل آمن خارج منازلهم. يجب أن تكون المنشآت قادرة على التعامل مع مختلف الأوضاع، بما فيها تلك التي بالكاد نتوقع حدوثها. فيما يجب أن تكون توقعاتنا معقولة، يمكننا تقبل الأمر بشكل أفضل حين نعتبر رعاية الطفولة المبكرة استثماراً في المستقبل وليس مجرد نفقات مؤقتة.
ما هو أكبر سوء فهم حاصل؟
يتعلق أكبر سوء فهم حاصل بحاجة الأطفال للترفيه فقط لحين بلوغهم من العمر ما يكفي للمشاركة في أنشطة أكثر معنى. إن تقليص توقعاتنا يؤدي إلى الحد من قدرتهم على مواجهة التحديات، والمخاطر التي تؤثر على إمكانياتهم على المدى الطويل.
وفي الحقيقة إن الأطفال تكون لديهم رغبة كبيرة بالأنشطة ذات المغزى وبلوغ قدرتهم على فهم البيئة المحيطة بهم، ويمكننا أن نساعدهم على الوصول إلى هذه المرحلة بشكل أسرع فقط من خلال زيادة شغفهم للتعلم بطريقة ترفيهية. وفي هذا الجزء من العالم، هناك الكثير من العائلات الكبيرة التي اعتادت أن تعيش تحت سقف واحد، وبما أن العائلة هي الوحدة الاجتماعية الأساسية في الثقافة العربية، لم يسبق أن تم اعتبار التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة خياراً فعلياً، فالأطفال معتادون على البقاء في المنزل وقضاء الوقت مع أخوتهم وأقاربهم الكثر حتى يبلغون سن الذهاب إلى المدرسة.
كما إن التغيرات اللاحقة التي طرأت على نمط حياة المواطنين والعائلات الإماراتية، أدّت إلى الاعتماد على العمالة الأجنبية للعناية بمنازلهم وأطفالهم. للأسف، معظم موظفي رعاية الأطفال يكونون عادةً دون مستوى التعليم، ما يحد من فرص التواصل والتحفيز الكافية للأطفال.
ولحسن الحظ، الأمور آخذة بالتغير في المجتمع العربي المعاصر والناس أصبحت تدرك بشكل متزايد فوائد التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة لتطور الأطفال على المدى البعيد. إن الجيل الجديد من الآباء والأمهات، الأكثر استقلالاً عن عائلاتهم الكبرى والذين يعملون لساعات أطول، هم أكثر تقبلاً لترك أطفالهم مع مختصي تنمية الطفولة المبكرة في سن مبكرة.
الطريق إلى الأمام – "التعلم من خلال اللعب"
يتمتع اللعب بدور محوري وغالباً ما يتم التقليل من شأنه في تنمية الطفولة المبكرة. ولكن كما قالت الكاتبة الأمريكية الشهيرة ديانا أكيرمان: "اللعب هو أسلوب التعلم المفضل لأدمغتنا"، وهو في الواقع من أكثر الأساليب تأثيراً على التعلم والنمو بالنسبة للأطفال، حيث يساعد على بناء قيمة ذاتية من خلال شعور الأطفال بقدراتهم، وبما إنه ممتع، فإن الأطفال يكونون أكثر استيعاباً وتقبلاً.
أولاً وقبل كل شيء، يجب على الأهل أن يقضوا وقتاً مع أطفالهم والبقاء على تفاعل معهم من خلال التواصل المشترك، كما يجب أن يتم الاستماع للأطفال بقدر ما يجب عليهم أن يستمعوا؛ وهكذا يمكننا أن نعلمهم كيف يتصرفون ويفهمون العالم، ويمكنهم أن يتعلموا كيف يعبرون عن أنفسهم ويتفاعلون مع الآخرين. كما أننا بحاجة إلى تمكينهم لمواجهة التحديات كي نعزز ونشجع المرونة والمثابرة، واللتين تعتبران مهارتين جوهريتين في الحياة.
يجب أن يستفيد الأطفال من جميع جوانب اللعب في المدارس، حيث تعتبر اللياقة البدنية بذات أهمية اللياقة الذهنية بالنسبة لتطورهم. وعلى المدارس أن توفر مجموعة متنوعة من مساحات اللعب. المساحات الموجودة في الهواء الطلق توفر للأطفال حرية اللعب وإمكانية ممارسة التمارين من خلال الاستفادة القصوى من قدراتهم البدنية. أما مساحات اللعب المحفزة للخيال فهي تتيح لهم إطلاق العنان لإبداعهم وفضولهم، ما يساعد على تطوير مخيلة الأطفال وصقل قدرتهم على تصور الحلول. وتقدم مساحات التعليم القائم على اللعب، والتي تتمحور حول فكرة أن "كل شيء بحاجة إلى هدف"، أنشطة بنّاءة مثل اللعب بالمعجون والطين، والهياكل العظمية البشرية، ومكعبات البناء وغيرها من الأنشطة المتعددة التي تدعم تطور المهارات الحسابية.
وبذات الأهمية، يجب أن يترك الأهل مهمة التعليم الأكاديمي للمعلمين في المدارس. سيتعلم الأطفال بالسرعة المناسبة لهم، وعلينا أن نكون واثقين من قدرة المدارس على توجيه تعليمهم بأسلوب مناسب وملائم زمنياً. أما في المنزل، يحتاج الأطفال الصغار لوقت ممتع مع عائلاتهم. لهذا، من الضروري توعية الأهل وموظفي الرعاية بأهمية التعلم القائم على اللعب للأطفال الصغار وتزويدهم بأفكار تساعدهم على استغلال ما لديهم بدلاً من استنساخ البيئة المدرسية، بحيث تنتظر الأطفال في المنزل أشياء مختلفة يستطيعون الاستفادة منها.
وأخيراً...
من الضروري أن يدعم الأهل المهارات الحركية الكبرى وممارسة التمارين بما يتجاوز قدرة طفلهم. إن لم يسمحوا لأطفالهم بالمخاطرة والخروج من "منطقة الراحة"، لن يتقدموا بذات السرعة ولن يتعلموا كيفية التعامل مع المشاكل الحقيقية. يمكن لهذه الأنشطة أن تكون تمارين بدنية مباشرة مثل التسلق والجري وركوب الدراجة والسباحة، أو تمارين غير مباشرة مثل تنظيف النوافذ، أو ترتيب الأغراض أو نقلها في المنزل، وهي أقل مرحاً، لكنها ستكون ذات مغزى أكبر.
والأهم، علينا أن نتذكر ضرورة عدم المبالغة في تحفيز الأطفال. إذ تكتسب أوقات الوحدة وتركهم ليجربوا الملل أهمية بالغة بالنسبة لنموهم، حيث تحفز الوعي، والمراقبة، وتعزز روح الاستقلالية والوعي بالذات.
الأطفال هم مستقبلنا. فلنقضِ وقتاً ممتعاً معهم، ونتحدث معهم، ونلعب معهم، ونعلمهم دروس الحياة المهمة، كي يستطيعوا أن يكونوا المواطنين الطيبين، والكرماء، والمسؤولين الذين يستحقهم العالم.